31.8.06

القطعان


بقلم : منذر ابو حلتم


الجو قاتم تماماً .. غيوم سوداء كثيفة تلبد السماء .. تتدحرج كتل الرعد كجبال صخرية تتقافز فوق الغيوم ..وبين لحظة وأخرى تتصل السماء بالأرض بلمعان البرق المتفجر ، فترتسم على الجبال البعيدة ظلال من الغموض والرهبة ..
والبحر .. ذلك الحالم الساكن .. الأزرق الذي تحوم فوقه أسراب النوارس وتسبح في سمائه سحب قطنية بيضاء يسوقها النسيم نحو الغروب .. هذا البحر قد غدا الآن مارداً جباراً ، ليس هناك من غضب يفوق غضب البحار اذا ثارت ..!.. وهناك .. بين تلال الموج المتلاطمة السوداء .. التي تشرئب بين لحظة وأخرى فترتفع .. وترتفع ، تلطم الغيوم برأسها الثائر .. فترد الغيوم هجومها بسهام البرق وسيول المطر .. هناك بين الأمواج المتلاطمة تقبع جزيرة صغيرة ، تغمرها الأمواج وتغوص في الأعماق رويداً رويداً .. لكنها سرعان ما ترتفع .. ترفع رأسها مثل غريق يرفض الموت .. لكن جيوش الموج تحاصرها من جديد ، فتغمرها .. لتنهض مرة أخرى ..!ولأن سكان هذه الجزيرة قد نسوا طعم الشمس .. ونسوا لون السماء وزرقة البحر وخضرة الربيع .. ولم يعودوا يذكرون سوى الأمواج الداكنة والصخور السوداء ، ولم تتفتح أعين صغارهم إلا على الغيوم القاتمة والمطر الأسود .. ولأنهم نسوا كيف تكون الأغاني ولم يعودوا يسمعون سوى تدحرج الأمواج على صخور جزيرتهم .. لكل هذا .. فقد قرروا ان يهربوا.! .. ولكن إلى أين ؟ والكون الغاضب لهم بالمرصاد
اقترح حكماؤهم كبار السن أن يحفروا كهوفاً عميقة .. وسراديب ملتوية يلجأون اليها .. واختاروا أن يعيشوا تحت الأرض .. أحدهم قال :- ( وما الفرق ؟ .. هنا ظلام وفي الكهوف ظلام .. )
حكيم آخر هز رأسه موافقاً وقال : - لكننا في الكهوف سنكون اكثر أمناً ..!
حكيم ثالث قال : - على الأقل سنرتاح من عزف الرعود وغناء الأمواج ..! ..
وهكذا عاش سكان الجزيرة تحت الأرض .. في الكهوف العميقة المظلمة .. والسراديب الملتوية الرطبة ..وشيئاً فشيئاً .. اعتادوا على هذه الحياة .. صحيح أن العتمة دائمة فلا يبصرون .. وصحيح أن الهواء متعفن فلا يتنفسون بسهولة .. وصحيح أن العقارب والخفافيش والعناكب .. أخذت تتكاثر وتتكاثر .. لكن أهل الجزيرة اعتادوا كل ذلك .. بل أصبحوا عاجزين عن تصور الحياة على نحو آخر ..!وشيئاً فشيئاً .. أخذت عيونهم تتضاءل .. تنمحي .. وبدأت تظهر على أجسادهم حراشف وأشواك .. كالقنافذ .. لكنهم مع هذا سلموا أمرهم لله واعتبروا الأمر طبيعياً ..!وتمضي السنوات .. وتكبر الأساطير بين سكان الكهوف والعتمة .. بدأ بعضهم يتحول إلى نوع من الغيلان والوحوش ..يمتصون الدماء وينهشون الأعضاء .. وكثر هؤلاء .. وصاروا يستعبدون غيرهم ممن هم أضعف جسدياً .. ولم يتحولوا بعد إلى وحوش .. ثم أخذوا يضعونهم في مزارع خاصة .. يتاجرون بهم .. ويذبحون من يسمن منهم .. ويأكلونهم في مناسباتهم الكثيرة.وتمضي السنوات .. وتكثر قطعان البشر .. الذين اعتادوا ذلك أيضاً وسلموا امرهم لله ولسادتهم ..انقرض جميع سكان الجزيرة الأوائل الذين يعرفون سطح الأرض .. ونسي الجميع شكل السماء ولون الشمس .. بل ونسوا ايضاً صوت الأمواج والرعود ..كان البعض يتحدث عن أساطير غريبة مرعبة .. تناقلوها عن أجدادهم .. تتحدث عن عالم يغمره شيء اسمه النور .. وعندما سئل أحد الحكماء ( الذين كثرت اعدادهم بين القطعان ) : - ما هو النور ؟فكر طويلاً ثم قال : - ( انه شيء يغمر كل شيء .. وهو يأتي من كرة حمراء هائلة ..( كعين الشيطان .. اسمها الشمس ..!
كان الصغار يستمعون الى هذه الحكايات برعب قاتل .. يحاولون ان يتصوروا الشمس .. تلك العين الحمراء .. وينتفضون رعباً .. ويهربون الى الزوايا الرطبة البعيدة ..!وذات يوم .. قرر أحد الشبان الصغار ..( كان معروفاً بالشجاعة .. ولم يدجن بعد .. بل وتجرأ مرة ونظر بحقد إلى أحد الوحوش الذي كان يضع العلف للقطيع البشري ! ) .. قرر هذا الشاب أن يصعد إلى سطح الأرض ..لم يخبر أحداً بقراره .. وبدأ يصعد في السراديب المعتمة الملتوية .. وشعور بالرهبة يجتاح كيانه ..!لمح شيئاً لم يكن قد رآه من قبل .. شيئاً أبيضاً لامعاً .. يجعله يرى الصخور بوضوح أكثر .. تساءل برعب ( هل هذا هو النور ؟! )لكنه استمر يصعد ويصعد .. لمح في نهاية النفق بقعة بيضاء مؤلمة .. تحرق العينين .. لكنه استمر يصعد ويصعد .. شعر بالهواء النقي يغشى صدره فكاد يغمى عليه .. واستمر يصعد .. وفجأة .. وجد نفسه على سطح الأرض ..!في البداية لم يجرؤ على فتح عينيه .. ولكنه بعد قليل .. وشيئاً فشيئاً بدأ يفتحهما .. لمح أشياء غريبة .. ساحرة .. لم يشاهدها من قبل .. قبة زرقاء واسعة .. وهناك عند الأفق كرة مضيئة جميلة ..( هل هذه هي الشمس .. عين الشيطان ..؟! ) ..تساءل مندهشاً ..( وهذا البساط الأزرق الممتد الى ما لا نهاية .. أهو البحر ..؟ ) ..كانت طيور بيضاء تحلق سعيدة فوق البحر .. وبعيداً .. بعيداً .. كانت أشرعة ملونة لمراكب مسافرة تبدو في الأفق .. قريبة من الشمس ! ..
قرر ان يعود ليخبر الجميع .. ليخبر القطعان الخائفة التي تحيا في العتمة .وعندما عاد .. أخبرهم باندفاع وحماس عن كل شيء .. وفي اليوم التالي وجدوا جثته مهشمة بلا دماء ..!أما القطعان فقد انتشرت بينها إشاعة .. عن عالم تغمره شمس جميلة مشرقة ..فانقسموا ما بين مصدق .. ومكذب

30.8.06

هذه القطرات الصغيرة



قصة : منذر ابو حلتم
صوت سقوط القطرات يتوالى برتابة قاتلة .. هذه القطرات الصغيرة اللعينة تتساقط منذ ايام على رأسي .. فأشعر بها تضرب دماغي بقوة وعنف
احدق في العتمة الرمادية المحيطة بي .. احاول تحريك رأسي يمنة ويسرة .. لكن الألم يعتصر عنقي فأغمض عيني مستسلماً لضربات القطرات المستمرة ..
احاول ان اريح تفكيري فربما تمكنت من النوم .. ابدأ بعد القطرات …واحد .. اثنان .. ثلاثة .. اربعة ..
الهواء يلفح وجهي لدرجة مؤلمة وانا انزل سلم الطائرة ، الثلج يتساقط بغزارة .. اثبت القبعة جيداً على رأسي واغلق قبة معطفي ..
اضواء المطار لا تخفف كثيراً من قتامة الجو ..! اشير إلى سيارة متوقفة .. وفي المقعد الخلفي اتنهد بارتياح وانا اتأمل نهر الدانوب وهو يسير غير عابئ بالثلج المتساقط ..
بعد ساعتين في صالة الفندق الدافئة .. كنا نجلس معاً .. وكانت تبدو سعيدة وهي تيتسم بعينيها الزرقاوين ..
دقيق في مواعيدك كالعادة ..-
كتبنا معا برنامج الزيارة .. وساعدتني في ترجمة بعض النشرات التي لم افهمها تماماً ..
في صالة الفندق كانت ساعة حائط ضخمة تدق برتابة .. وهدوء .. بينما كان بندولها الضخم يتارجح يميناً ويساراً ..
القطرات توالي سقوطها الرتيب بعنف اشد .. والرطوبة تخنقني ..
الزنزانة ضيقة وانا جالس على المقعد الحديدي منذ ايام .. كم يوماً مر على وجودي هنا دون نوم ؟ .. احاول ربط الحوادث ومقارنة التواريخ .. لكن العتمة الرمادية وسقوط القطرات على رأسي يشل تفكيري ، وحافة المقعد الحديدي تشد بقوة على قدمي المصابة فيمتد الخدر المؤلم النابض إلى ظهري .. اتنفس بعمق باحثاً عن الهواء ..
كان شعرها غريب اللون .. ووجهها ابيضاً صافياً رغم انها لا تضع شيئاً من مساحيق التجميل .. وحين كانت تلتفت كان شعرها يتموج مثل تلك الموجات الصغيرة على سطح الدانوب ..
كانت شديدة الحماسة .. تتحدث بسرعة وثبات وتسألني كثيراً عن فلسطين ..
قالت لي مرة :- احسدكم .. اتمنى ان اكون معكم
وعندما قلت لها :- لديكم هنا معركتكم ايضاً ..
قالت دون تردد :- حروب التحرير هي الحروب الحقيقية .
في قاعة المسرح الكبرى .. تحدثت هي بلغتها عن فلسطين وعن القضية الفلسطينية وعن التضامن الاممي مع الشعب الفلسطيني … وعندما قدمتني للجمهور الكبير الجالس في الصالة فوجئت بصوت التصفيق الذي استمر طويلاً ..
شكرتها وشكرت الحضور .. بلغتهم .. ثم بدأت أقرأ قصائدي باللغة العربية .. بينما كانت هي تتولى الترجمة بطريقة معبرة ..
كنت القي ابيات القصيدة .. بينما عازف شاب يقوم بالعزف على الجيتار .. الالحان كانت هادئة وجميلة .. وتتناسب مع نبرة صوتي صعوداً وهبوطاً ..
الهدوء التام اثناء قراءتي .. والتصفيق الحاد بعد الترجمة .. وذلك الشعور بدفء العلاقة الانسانية جعلني ارتجل قصيدة جديدة ..
وبعد الامسية استوقفني عدد من الطلاب العرب .. بالقرب من درج الصالة الكبير .. كانوا يصافحونني بحماسة .. وكانت هي بجانبي تصافحهم بحرارة ايضاً .. بينما اصوات عشرات الاقدام تصعد وتهبط الدرج الكبير .. كان صوت الخطوات رتيبا قويا …!
سقوط القطرات يتوالى .. ربما مر يوم آخر على وجودي هنا ..! القيد الحديدي يؤلم قدمي بشدة .. والعتمة الرمادية مستمرة كليل لا ينتهي ..
اتشبث بالواقع .. هم يريدون مني ان انهار .. ان اتشتت .. ان افقد احساسي بالزمان والمكان .. ليتمكنوا من تفكيك عقلي بسهولة
في ساحة المدينة الباردة ودعتني بحرارة وحماسة .. قالت لي انها متأكدة من اننا سنلتقي مجدداً .. وحين ابتعدت السيارة رفعت يدها من بعيد بشارة النصر ..
كان نهر الدانوب يخترق المدينة بصمت عندما حلقت الطائرة .. وعندما اغمضت عيني في مقعد الطائرة المريح .. رحت في نوم عميق ..!
نحن نعرف عنك كل شيء -
الافضل لك ان تتكلم -
سنكسر قدمك الاخرى .. ونجعلك معاقاً تماماً -
وفوق رؤوس المحققين كانت ساعة حائط قديمة تدق برتابة وقوة
في الممر الضيق في باحة السجن كان عشرات الجنود يصطفون على الجانبين وفي ايديهم هراوات سوداء .. وكان على المعتقلين ان يمروا ركضاً بين الصفين .. بينما تنهال عشرات الهراوات على رؤوسهم واجسادهم .. لكنني لم اكن استطيع الركض .. جندي قال لي ضاحكاً :- هيا اقفز .. اريد ان اراك تقفز مثل الضفدع
لكنني لم اتحرك .. وعندما افقت كنت متورماً تماماً
مطار جنيف مزدحم كالعادة .. ورغم المطر لم يكن الطقس بارداً جداً ..
صديقي الذي كان ينتظرني ناداني من بعيد .. عانقني بقوة .. وقال ضاحكاً :- ها قد كبرت اخيراً ايها العنيد .. انظر إلى هذا الشيب
وكانت شعرات بيضاء كثيرة تلمع في رأسه ايضاً ..
في المساء .. وفي المقهى المزدحم بالقرب من محطة القطارات ..جلسنا .. وانضم الينا اصدقاء اخرون .. بعد نصف ساعة كان صوت القطار وهو يقترب من بعيد .. رتيباً قوياً يزداد قوة شيئاً فشيئاً …
آه .. القطرات اللعينة تواصل ضرب رأسي بايقاعها الرتيب .. والنوم حلم مستحيل ..
خطوات تقترب وتبتعد .. كم يوماً مر على وجودي هنا ..؟!
كم يوماً مر دون ان انام ؟ .. لا ادري .. كل ما اعرفه هو انني يجب ان لا افقد شعوري بالزمان والمكان .. وما بين الدانوب وجنيف وزنزانتي .. كان ايقاع القطرات الرتيب يتوالى مثل كابوس اسطوري لا ينتهي …!

العنكبوت .. وقصص أخرى



قصص قصيرة بقلم : منذر ابو جلتم




فراغ


استيقظ من نومه وهو يشعر بفراغ رهيب .. ذهنه فارغ ومشاعره ميتة .. وذاكرته معطلة ..!! .. قام متثاقلاً ليغسل وجهه .. وعندما نظر في المرآة لم يفاجأ كثيراً عندما لم يجد وجهه


زيارة


نظرت بلهفة من نافذة الطائرة المتوجهة الى قبرص .. عندما ظهر في الأفق البعيد ساحل صار يبتعد الى الوراء .. ثنيت رقبتي وحاولت التدقيق جيداً .. تلك عكا .. نعم .. لا بد انها عكا .. وتلك حيفا
مسحت عيني من دمعة مزعجة لأرى جيداً .. وهمست :- يا الهي .. هذه فلسطين


حب


قال لها بصدق غريب .. وهو يمسك يدها بقوة آلمتها
حبيبتي .. احبك بجنون .. احبك كما لم يحب رجل امرأة .. أنت معي في سفري ويقظتي وأحلامي .. معي في حزني وفرحي .. فأرجوك … أرجوك ان تبتعدي عني .. اهربي مني




العنكبوت


كنت اراقب باهتمام شديد خيوط العنكبوت الكثيفة في زاوية الزنزانة وأراقب ذلك العنكبوت الأسود طويل الأرجل وهو يتربص بسكون لنملة تسير على الجدار ..مقتربة من نسيج العنكبوت ..اقتربت النملة اكثر واكثر ..وبدأ العنكبوت يحرك أطراف أرجله مستعداً للانقضاض ..
فجأة التصق العنكبوت بالجدار .. بعد أن صفعته بقوة آلمت يدي .. وأيقظت زميلي الذي استيقظ صارخاً بفزع :- ماذا جرى ؟!




أمن


نزل الشاب الإسرائيلي مع صديقته من الحافلة المصفحة .. وركبا سيارته المصفحة ضد الرصاص .. وأدار الشاب المحرك بعد أن تأكد من وجود المسدس والقناع الذي يحمي من الغازات السامة في جيب السيارة .. وعند باب الكازينو قام عدد من الجنود بتفتيشهما بدقة قبل أن يسمحوا لهما بالدخول ..
في الداخل كان عدد من الشباب والفتيات يرقصون وراء زجاج مضاد للرصاص حاملين مسدساتهم ورشاشاتهم .. قال الشاب المتجهم للفتاة المتجهمة :
لماذا أنت متجهمة هكذا ؟ .. هيا ارقصي -


عروس البحر
عندما اخبر البحار الشاب زملاءه البحارة عن رؤيته لعروس البحر لم يصدقه أحد .. اخبرهم بحماس ولهفة كيف ظهرت له فجأة عند منتصف الليل .. وكيف بدت جميلة ساحرة في ضوء القمر ..
بحار عجوز غمز بعينه ضاحكاً :- هذه أعراض الشباب .. لا تخف ، ستختفي مع الزمن ..! ..وعند منتصف الليلة التالية ذهل البحارة جميعاً عندما رأوا البحار الشاب يقفز من السفينة ليسبح نحو عروس البحر التي كانت تسبح تحت ضوء القمر بانتظاره

قافلة العميان

قصة : منذر ابو حلتم

قافلة العميان كانت تسير بخطى مسرعة واثقة في الصحراء .. رغم تعثرهم بين فترة واخرى ! .. كانوا يمسكون بأيدي بعضهم في سلسلة متتابعة ..الاعمى الاخير كان يقول لنفسه :- واضح ان الرجل الذي يقودني يرى طريقه جيداً .. الاعمى الذي يليه كان يقول لنفسه :- الحمد لله الذي يسر لي رجلان طيبان يمسكان بيدي ليدلاني على الطريق
الاعمى الثالث كان يقول لنفسه وهو يستمع لصوت الخطوات :- انا وسط مجموعه من الرجال الواثقين الذين يرون طريقهم جيداً ..! .. الاعمى الذي في المقدمه كان يقول في نفسه :- كم هو طيب هذا الرجل الذي يمسك بيدي ليدلني على الطريق .. انه يدعني اسير امامه كي لا يجرح مشاعري ..! قافلة العميان كانت تسير بصمت في الصحراء الواسعه .. لكنها كانت تسير بخطى سريعة واثقه

كلمة .. كلمة

قصة : منذر ابو حلتم



نظرت إلى ساعتها للمرة الرابعه .. ونظرت حولها .. عدد قليل من الناس يجلسون على الطاولات الأنيقة .. المغطاة بقماش أزرق جميل وموسيقى هادئة تنبعث في أرجاء الصالة الواسعه ..
السمفونيه الأربعون لموزارت .. أغمضت عينيها .. إنها تحب هذه المقطوعة بالذات لقد أهداها إياها قبل شهر على شريط كاسيت .. ومنذ ذلك الحين أدخلتها هذه الموسيقى عالماً آخراً .. جميلاً .. يختلف كثيراً عن عوالم الصخب والجنون التي تسمعها كل يوم والتي لا تشعر معها إلا بالسأم والصداع
جهاز التكييف يجعل جو الصالة ربيعياً منعشاً يختلف كثيراً عن الجو في الخارج . كان الشارع يبدو من فتحات الستارة الزرقاء مزدحماً وشمس الظهيرة تصب لهيبها على كل شيء .
لقد تأخر ربع ساعة .. ربع ساعة كاملة .. إنها المرة الأولى التي يتأخر فيها .. فهو دقيق في مواعيده لدرجة متعبة . ابتسمت وهي تتذكر ملامحه وطريقته في الكلام .. خطبه الحماسية في اتحاد الطلبه .. إنه متحمس لكل شيء .. مندفع .. لايقر له قرار ، ويمكن أن تجده في أية لحظة .. في أي مكان في الجامعة .. المكتبة .. الكافيتيريا .. اتحاد الطلبة .. الساحات العشبية الخضراء .. ومع هذا فهو من الأوائل دائماً . ومع أنه يكبرها بعدة أعوام .. إلا أنها لا تشعر معه بأي فارق زمني ، فهو على وشك إنهاء دراسته العليا في الصحافة .. ويعمل مراسلاً صحفياً لعدة مجلات وصحف .. أما هي فما زالت في السنة الثالثه في كلية الآداب .
هي لا تدري كيف أعجبت به في البداية .. فهو صديق للجميع ، والجميع يحبونه .. وخاصة الفتيات .. لكنه لم يكن يهتم بفتاة معينة .. بل كان يوزع اهتمامه على الجميع .. ولعل اندفاعه وحماسه وبساطته هي ما يشد الجميع إليه .. وخاصة هي ! .. فهو يختلف عن الآخرين .. ثم بدأت تلمس اهتمامه بها .. فهي من المتابعات النشيطات للانشطة الثقافية .. وعضو في اتحاد الطلبة ..ولها محاولات شعرية فرحت بها لحد الجنون عندما نشرت في صحيفة الجامعة .. وبدأت تشعر بنظرات الغيرة .. عندما تشاهدها زميلاتها وهي تسير أو تجلس معه ..
تنفست بعمق .. إنها تحبه .. تحبه لدرجة لم تتوقعها هي نفسها ..! ولكن ما الذي جعلها تتعلق به لهذه الدرجة ؟ .. إنه ليس غنياً .. بل على العكس .. فقير .. وبسيط .. يرتدي ملابس بسيطة ، ولا يجد حرجاً عندما يقول إنه يشتري ملابسه من محلات الألبسه المستعملة .. ويركب الباصات ويأكل الساندويشات الرخيصة .. لكنها تحبه .. تحب حماسه واندفاعه .. بساطته .. طريقته في الكلام .. كان يقول لها :- أنت ما زلت نقية وطيبة .. لم تغيرك بعد أوراق السيلوفان التي تحيط بك
وعندما كانت تضحك وهي تجلس معه على العشب .. كان يقول
- لن أسمح لعيشة القصور أن تطفئ فيك شعلة الحياة -
ولم تكن تفهم تماماً ما يعنيه .. كان يناقشها في محاولاتها الشعرية .. بكل جدية .. وكانت تبتسم وتقول له أنه يحمل الأمور فوق ما تحتمل .. لكنه كان يصر على المناقشه .. فتقاطعه ضاحكة :
أنت مجنون .. وستكون نهايتك إما في مستشفى المجانين أو مثل سقراط -
إنه يختلف تماماً عن تماثيل الشمع البلهاء التي تتراقص في الحفلات الاجتماعيه التي تشارك فيها عائلتها ومعظم معارفها باستمرار ..كانت تفرح بمناقشاته .. لم يكن يهمها كثيراً ما يقول .. لكنها كات تشعر بالسعادة وهي تتابع حماسه الغريب .. وطريقته في الحديث ! .. المهم أنها معه .. وهو محط أنظار الجميع .. كانت تسمع الطلبة يتحدثون عنه .. في تجمعاتهم وجلساتهم .. يتحدثون عن كتاباته ومقالاته .. عن نشاطاته وأفكاره وآرائه السياسية .. فيزداد إعجابها به .. ومع أنها قرأت معظم ما نشره من مقالات .. إلا أنها لم تفهم أشياء كثيرة مما قرأته .. ولم تفهم لماذا تثير مقالاته كل هذا الحديث .. وهذه الضجة ..!
الجرسون يحضر فنجان القهوة الثاني .. تناولت كوب الماء البارد .. شربت منه قليلاً وصارت تحرك الكأس بيدها .. فتصطدم مكعبات الثلج الصغيرة بجوانب الكأس مصدرة صوتاً يشبه صوت جرس ناعم ..
قبل أيام قال لها ببساطة إنه يحبها .. وإنه يود التقدم لخطبتها .. وقال إنه يتوقع معارضة أهلها .. لكنه لن يستسلم بسهولة .. ومستعد للمحاربة من أجلها اذا كانت تبادله نفس الشعور .. فرحت كما لم تفرح من قبل وبنفس البساطة والاندفاع أخبرته أنها تحبه أيضاً .. واتفقا على اللقاء اليوم ليتحدثا في تفاصيل الخطوبة . ابتسمت وهي تتذكر كيف اصرت هي ان تدعوه الى هذا المكان .. وكيف رفض في البداية قائلاً بأن هذه الأمكنة تشعره بالاغتراب .. ولكن عندما أصرت وقالت ضاحكة :- يا أخي لا تخف .. على حسابي أنا !
ابتسم وقال :- في هذه الحالة .. أقبل الدعوة ..!
نظرت إلى الساعة للمرة الخامسة .. كانت تشير إلى الثالثة والنصف .. ستكمل فنجان القهوة ثم تخرج .. لأن منظرها ليس طبيعياً وهي تجلس وحيدة على الطاولة .. بين هؤلاء الذين يجلسون أزواجاً .. ويتحدثون همساً وهم ينظرون في عيون بعضهم بنظراتهم الحالمة ..
أمسكت بحقيبة يدها ووقفت .. وقبل أن تثبت نظارتها الشمسية على عينيها .. رأته يدخل مسرعاً من الباب .. خفق قلبها وتنهدت بارتياح وعاودت الجلوس ..
آسف .. آسف جداً يا حبيبتي
تظاهرت بالغضب .. رسمت تكشيرة على جبينها وقلصت شفتيها فبدت مثل طفلة حردانة .. ونظرت إليه . كان يتصبب عرقاً .. ومن عينيه تطل نظرة حزينة حائرة ..
- لماذا تأخرت ؟ ثم تابعت مبتسمة :- هل بدأت تهرب مني منذ الآن ؟
مسح جبينه بظهر يده ، ناولته منديلاً ، تناوله ومسح وجهه بحركة عصبية واضحة .. قالت باهتمام :
ماذا حدث ؟ .. ابتسم ابتسامة خاطفة وقال -
سأسافر هذه الليلة -
لم تفهم ما قاله للوهلة الأولى .. نظرت إليه بدهشة
ماذا قلت ؟
ستنطلق الطائرة عند الحادية عشرة ليلاً ..
فتحت فمها بدهشة .. أن يسافر فهذا أمر طبيعي .. ولكن هذه الحيرة .. وهذا الحزن
إلى أين ..؟ .. ولماذا ؟
- لا أستطيع البقاء أكثر .. ! صمت قليلاً .. نظر إليها بعمق ثم تابع باهتمام وصوت منخفض :- اسمعيني .. اسمعيني جيداً .. قد لا أتمكن من العودة قبل أشهر .. أو سنوات ! .. كان يتحدث بسرعة وتابع :- اسمعيني جيداً .. يجب أن لا نخرج من هنا معاً .. لقد قبضوا على زميل لي .. لكنه لن يتكلم قبل أربعة وعشرين ساعة .. خذي هذه الأوراق .. احفظيها في مكان أمين .. لا تدعي أحداً يراها .. سأتصل بك بمجرد أن استقر .. وسأخبرك بعنواني .. لترسليها لي ..وإذا حدث شيء ما .. أو شعرت بأي شيء غير طبيعي .. تخلصي منها .. أحرقيها ..!
كانت تتابع ما يقول بذهول ودهشة .. أمسك بيدها ونظر إلى عينيها نظرة طويلة وتابع :
إذا تمكنت من اللحاق بي بعد تخرجك .. سأكون بانتظارك .. والآن .. إلى اللقاء ..!
وقف وهو ما زال ممسكاً بيدها .. شد على يدها بحرارة ، وقفت مترنحة وهي تمسك بالكرسي بيدها الأخرى .. ثم اقترب منها فجأة وقبلها على خدها قبلة سريعة ..
كانت تقف بذهول .. تابعته وهو يبتعد ، انتبهت إلى الجالسين وهم يحدقون فيها بفضول . وضعت مغلف الأوراق في حقيبتها وسارت بخطوات بطيئة نحو الباب .
عندما خرجت كان الهواء ساخناً .. لكنها سارت ببطء نحو سيارتها الصغيرة الحمراء .. محاولة تذكر كلماته .. وتجميع افكارها ..
ماذا حدث فجأة ؟! ..وإلى أين سيسافر ؟ و أين سيستقر ؟ وأين ينتظرها لتلحق به ؟؟ عندما جلست في السيارة .. كان مقود السيارة ساخناً جداً بسبب حرارة الشمس .. لكنها أمسكت به دون أن تشعر بحرارته .. وسارت بين السيارات الزاحفة تحت شمس تموز .. في طريقها إلى الفيلا في الحي الهادئ ..!
في المنزل كانوا جالسين حول مائدة الغداء .. والخادمة السيريلانكية تجمع الصحون .. قالت أمها
انتظرناك طويلاً .. لكنك تأخرت .. هيا .. الطعام ما زال ساخناً ..
لكنها سارت نحو غرفتها دون أن تنطق بكلمة واحدة .. في غرفتها جلست على السرير .. أخرجت المغلف من حقيبتها .. كان المغلف مغلقاً .. نظرت إليه قليلاً ثم فتحت أحد ادراج مكتبتها ووضعته تحت كومة من المجلات ..وفي الليل .. وفي تمام الساعة الحادية عشرة .. خرجت إلى الحديقة .. نظرت إلى السماء .. وعندما سمعت صوت طائرة يهدر من بعيد .. ولمحت أضواء الطائرة وهي تتجه بشكل شبه مباشر نحو القمر .. خفق قلبها .. وشعرت بأنها تفتقده .. تفتقده كثيراً ..
في اليوم التالي سمعتهم في الجامعة يتحدثون عن إلقاء القبض عليه .. خفق قلبها بشدة وتغير لونها .. وهي تسمع كيف قبضوا عليه في المطار .. قبل سفره بدقائق .. شعرت بالانهيار .. وشعور بالحزن والانقباض يخنقها ويضغط على كل خلية في جسمها ،ولم تكن لديها الرغبة على حضور باقي المحاضرات ..
في غرفتها .. ارتمت على السرير ، دفنت وجهها في الوسادة وبكت .. بكت طويلاً وشعور بالغضب والقهر يزلزل كيانها .. لماذا ؟ إنه طالب ..وكاتب مثقف ، كتاباته لا تسيء إلى أحد ..إنه يكتب عن أشياء غريبة .. لكنها تشعر أنها صحيحة .. إنه يكتب دائماً عن عالم مثالي جميل .. يختلف عن عالمها هي ..عالم الصفقات والعقارات والموضة .. عالم الأغاني الغربية والصرعات المجنونة .. عالم مختلف تماماً ..إنه يكتب عن عالم جميل .. نظيف خالٍ من الفقر والمرض والفساد ..عالم يستطيع فيه الناس .. كل الناس أن يقولوا ما يريدون .. بحرية
الغضب يزداد في صدرها .. يجب أن تفهم ..لماذا يقبضون على إنسان لمجرد أنه يكتب ؟! نعم .. يجب أن تفهم ما يدور حولها ..
مسحت دموعها .. ثم أخرجت المغلف من تحت كومة المجلات القديمة .. وعندما أمسكته بيديها .. شعرت بأنه قريب .. قريب جداً .. فتحت المغلف بأصابع مرتعشة , و أخرجت الأوراق .. كانت مجموعة من مخطوطات مقالات لم تنشر بعد .. ومنشورات سرية .. نظرت إليها بإمعان .. ثم بدأت تقرأها .. كلمة .. كلمة

الغبار



قصة : منذر ابو حلتم 
التعب بدأ يسري في ساعديه مثل الخدر .. والشمس مصرة على العبث معه .. فكلما وضع لوح الصاج في مواجهة الشمس ، تعود وتدور لتطل عليه من جديد ..بوجهها الملتهب . وضع المطرقة الثقيلة والأزميل على الأرض وحرك ذراعيه .. مد ذراعيه ثم ثناهما عدة مرات .. ونظر إلى حركة السيارات الكثيفة على الشارع الذي يبعد عنه أمتاراً قليلة .. وخلفه كانت ورشة البناء .. عمال يصعدون وينزلون حاملين حجارة البناء والطوب وصفائح الباطون .. قضبان حديدية مكومة هنا وهناك .. أخشاب ورمال وبراميل مياه ..
أمسك بالمطرقة والأزميل ، ونظر إلى كومة الحجارة بجانبه .. حجارة مقصوصة بعناية ، مستطيلة الشكل .. تنتصب بجانبه وكأنها الهرم.
وعاد يدق الحجارة .. يرفع يده وينزلها .. والوقت منشار ينشر ذراعيه .. والانحناء المستمر أثناء الجلوس على الأرض يسبب له ألماً مستمراً في أسفل الظهر .
- يعطيك العافيه يا أستاذ.
أحد العمال يحييه مبتسماً وهو يحمل صفيحة مليئة بالباطون على كتفه ويصعد سلماً خشبياً متأرجحاً .. يبتسم ويرد التحية .. ثم يعاود دق الحجر من جديد . كان يشعر بتعاطفهم معه ، تعاطف يصل إلى حدود الشفقه أحياناً .. وهو يبادلهم نفس الشعور .
كانوا يسألون بدهشة أثناء تناول الغداء :
- كيف يا أستاذ ؟ .. أنت جامعي وأستاذ متعلم .. كيف تعمل حجاراً ؟
وكان يسرح بنظره بعيداً ثم يحرك يده بلا مبالاة ويقول
أكل العيش يا شباب .. ! وكانوا يهزون رؤوسهم ويصمتون .
بعد تخرجه من الجامعه .. أمضى سنوات عديدة بلا عمل سوى الكتابة .. كان يكتب الشعر وينشر قصائده في الصحف والمجلات .. لكنه كان بلا عمل .. بحث طويلاً عن عمل .. أي عمل .. دونما فائدة .. وعندما علم أن قريبه المقاول يبحث عن شخص ليعمل حجاراً في ورشته الجديدة .. ذهب إليه وطلب منه بحماس أن يعمل .. وهاهو يعمل حجاراً منذ عشرة أيام ..
انتبه على صوت بجانبه :
- تفضل يا أستاذ .. شاي عجمي مضبوط .
شكره بشدة .. فكوب الشاي جاء في وقته .. وهو يريد أن يستجمع أفكاره استعداداً للمساء .. فهو مدعو لتقديم أمسية شعرية في مجمع النقابات المهنية .. في الساعة الثامنة مساء . أسند ظهره على حجر كبير .. و أمسك بكوب الشاي ... انتبه على صوت وقوف سيارة بالقرب منه .. سيارة حديثة حمراء .. تقودها امرأة سمينة وبجانبها فتاة نحيفة ترتدي نظارة شمسية . مراقب المشروع أسرع راكضاً ومرحباً بهما .. ثم نزلت المرأة السمينة وبدأت تتفقد سير العمل ، بينما بقيت الفتاة في السيارة .
كان صوت المرأة السمينة مرتفعاً وهي تنتقد وتتذمر .. وتتهم العمال بالبطء .. كان صوتها يشبه صوت دجاجة هرمة ..وعندما أشارت إليه وهي تقول بعصبية : - انظر اليهم .. إنهم يمضون وقتهم في الجلوس في الظل وشرب الشاي ..! شعر بالغضب لكنه نظر إليها ببرود واستمر يشرب الشاي بلا مبالاة . الفتاة في السيارة كانت تنظر إليه .. كانت جميلة .. لكنه عندما ابتسم لها أشاحت بوجهها بتقزز .. وقبل أن تنطلق السيارة سمع المرأة السمينة تقول :- حسناً .. سنذهب لزيارتها بعد حفلة الشعر .!
حفلة الشعر ؟! هل تقصد أمسيته الشعرية هذا المساء ؟ وهل تهتم هذه الدجاجة السمينة بالشعر ..؟!
عندما ذهبت السيارة سأل المراقب عنها فأخبره أنها مالكة العمارة .. وعندما سأله عن سبب عصبيتها وغضبها .. لوح بيده قائلاً :
- لا تهتم .. كلهم هكذا !
تناول المطرقة والأزميل وضرب الحجر .. لكن الحجر تحطم عند الضربة الثالثه .. المراقب جاء وربت على كتفه ..
- هدئ أعصابك يا أستاذ .. احذر أن تؤذي نفسك
الوقت يمضي .. وعند الساعة الثانية كانت يده قد تحولت إلى جسم بلا إحساس .. تتحرك ارتفاعاً ونزولاً وقد تخدرت تماماً ..والألم يغرس مساميره الحادة في كتفه وأسفل ظهره . انتبه على أصوات العمال وهم ينادون بعضهم لتناول طعام الغداء .. جلس معهم وكان جائعاً .. كانوا يأكلون بشهية ..الطعام المكون من الخبز والسردين والبندورة وكميات كبيرة من البصل والفلفل . وكانوا يضحكون .. رغم التعب والغبار الذي يغطي ملامحهم .. ويتحدثون بحماسة عن كل شيء .. عن مشاريعهم للمستقبل .. عن الرسالة التي وصلت إلى أيوب المصري قبل يومين من خطيبته في مصر .. كان يستمع إليهم ويشعر بالفرح .. يشعر أنه واحد منهم .. لقد الهموه الكثير من القصائد .. قصائد حية ، نشرتها مجلات أدبية رفيعة .. وهو يحبهم ويعرف أنهم يحبونه .
عند الساعة الخامسة انتهى يوم العمل .. وها هم العمال يغسلون وجوههم في براميل المياه .. قام ونفض الغبار عن ثيابه وغسل وجهه مثلهم . العمال المغتربون ذهبوا إلى غرفتهم المؤقته التي بنوها بالطوب وألواح الصاج .. بينما وقف هو مع الآخرين بانتظار الباص المتوجه إلى وسط المدينه .
عندما وصل إلى البيت كان يشعر بالتعب والنعاس .. وعندما جاءت أمه لتخبره أن الماء أصبح ساخناً للاستحمام وجدته نائماً على وجهه على فرشة الأسفنج الملقاة على الأرض .. فتركته نائماً بعد أن غطته بغطاء خفيف .
كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف عندما استيقظ من نومه .. جلس في الفراش .. والألم يعتصر ظهره وذراعيه . ثم قام وغسل وجهه .. نظر في المرآة .. كان لا يزال بملابس العمل .. بنطلوناً وقميصاً من قماش الجينز الأزرق يغطيهما الغبار ..
ماذا سيرتدي للأمسية الشعرية ؟! تذكر الفتاة وهي تشيح بوجهها بتقزز .. هل ستأتي إلى أمسيته الشعرية ؟.. نظر إلى المرآة مجدداً .. سيذهب إلى الأمسية هكذا .. بملابسه هذه .. ملابس العمل ! تناول بعض الأوراق عن الطاولة .. وعندما هم بالخروج سمع صوت أمه : - كويت لك بنطلونك الرمادي ..
لكنه قال :- شكراً .. سأذهب هكذا ..
جاءت أمه حاملة البنطلون الرمادي وهي تقول بدهشة :- ولكن يا بني ..
لكنه قاطعها :- هم يريدون أن يسمعوا شعري .. فليشاهدوني على حقيقتي .. كم أنا ..!
عندما وصل إلى المجمع المهني .. كان عدد السيارات المتوقفه في ساحة المجمع كبيراً .. وعندما وصل إلى المدخل الزجاجي الواسع .. كان أحد موظفي الاستقبال يقف مرتدياً بدلة سوداء أنيقة .
هم بالدخول .. لكن الموظف الأنيق أوقفه بيده :
إلى أين يا أخ ؟
نظر إليه باستغراب وابتسم قائلاً :- كما ترى .. أنا داخل إلى المجمع !
- ممنوع ..!
- ممنوع ..؟ لماذا ؟
- الدخول بالبطاقات .. يوجد أمسية شعرية وسيحضر عدد من أصحاب المعالي والعطوفة .. اذهب .. اذهب الآن
توقفت سيارة فارهة .. ونزل منها رجل وامرأة .. ودخلا الباب الزجاجي بعد أن رسم الموظف الأنيق ابتسامة عريضة على وجهه اللامع .. وانحنى بطريقة مسرحية وهو يفتح لهما الباب .
هم بالدخول مرة أخرى لكن الموظف الأنيق دفعه بيده بعصبية قائلاً :
- قلنا لك ممنوع .. ألا تفهم ؟
شعر بالغضب .. ابتسم بمرارة :
- يا أخي .. أنا الشاعر .. و أنت تؤخر الأمسية ..!
لكن الموظف الأنيق لم يصدق .. ومن الداخل ارتفع صوت مذيع الحفل عبر مكبرات الصوت وهو يعتذر عن التأخير .. ويخبر الحضور بأن الشاعر سيصل في أية لحظة . تناول ورقة وكتب عليها :
" أنا ممنوع من الدخول ..! "  ثم كتب اسمه وتوقيعه وأعطاها للموظف .. وطلب منه أن يعطيها لمذيع الحفل . نظر الموظف الأنيق إلى الورقة وذهب ممتعضاً بعد أن أوصى موظفاً أنيقاً آخراً بمنعه من الدخول .!
نظر إلى وجوه الداخلين اللامعة وملابسهم الأنيقة .. رائحة عطورهم قوية لدرجة العطاس .. والباب الزجاجي ما زال مغلقاً في وجهه .. نظر إلى أوراق القصائد في يده .. مزقها وألقاها في سلة للمهملات .. وأدار وجهه وهمّ بالانصراف .. لكن صوتاً لاهثاً ناداه .. ويداً أمسكت كتفه بقوة
- إلى أين أنت ذاهب .. ؟ تعال .. تعال بسرعة ..
كان مذيع الحفل وبجانبه الموظف الأنيق ينظر بدهشة وقد ارتسمت على وجهه اللامع علامات الغباء وعدم الفهم . دخل والمذيع يجره جراً .. لكنه توقف فجأة ..
- ما هذا الذي ترتديه ؟ .. هل جننت ؟.. ادخل هذه الغرفة .. سأدبر لك بدلة مناسبة بسرعة ..!
- لا .. سأقدم أمسيتي هكذا ..
- ولكن ..؟
- قلت سأدخل هكذا .. أو سأنسحب ..!
مذيع الحفل يدخل القاعة المزدحمة .. ويمسك بالميكروفون .. أصوات الحضور انخفضت بالتدريج .. ثم انطلق صوت المذيع وهو يشد على الحروف .. ويمط نهايات الكلمات .. وكأنه يلقي بياناً هاماً ..أو نشرة أخبار خطيرة :
- أصحاب المعالي والعطوفة .. والسعادة .. أيها السيدات والسادة .. رموز الثقافة .. وشموعها المضاءة في سماء الوطن .. وصل الآن الشاعر …
القاعة ضجت بالتصفيق .. وعندما دخل إلى القاعة ، وصعد درجات المسرح القليلة .. سكت التصفيق فجأة .. وتعالت همهمات من كل الجهات . تناول الميكروفون .. ونظر إلى الحضور .. نظر يميناً وشمالاً .. لمحها .. تلك الفتاة ذات النظرة المتقززه ، كانت تشير إليه وتتحدث مع الدجاجة السمينة التي فتحت فمها بدهشة كبيرة .. فبدت مثل دجاجة حقيقية .. قال :
- اعتذر عن تأخري .. مع أنني وصلت في الوقت المناسب .. لكن حارس الباب منعني من الدخول .. لم أعرف السبب في البداية ثم تأكدت الآن أن السبب هو حضوري بثياب العمل ..!
الهمهمات تزداد ، لكنه تابع :
- نعم .. فأنا أعمل حجاراً .. عاملا .. أدق الحجارة .. الحجارة !..هل تعرفونها أيها السادة ؟ إنها تلك المكعبات الصلبة التي تبنى منها قصوركم الفارهة ..
الهمهمة تزداد .. وصيحات استنكار بدأت تصعد من عدة أمكنه .. والمذيع يشير إليه بيديه وعينيه ورأسه وقد تبلل وجهه المصفر بالعرق .. لكنه تابع :
- كنت قد أحضرت معي بعض القصائد .. التي كانت سترضي غروركم وتسليكم .. وتقنعكم بأنكم مثقفون .. ولكنني القيتها في سلة المهملات .. ومنذ اليوم سأكتب شعراً لا أعتقد أنه سيعجبكم .. ! والآن .. اعتذر لمن جاء حقاً ليسمع الشعر .. فأنا متعب جداً .. وحزين .. ويجب أن أنام لأتمكن من الاستيقاظ مبكراً للعمل .!
وضع الميكروفون على الطاولة .. ونزل الدرجات ببطء وسط موجة من الهمهمات الذاهلة .. ومن الصفوف الخلفية انطلق صوت تصفيق منفرد .. ثم انضم إليه صوت تصفيق آخر .. وآخر ، أيدٍ كثيرة بدأت تصفق .. أما في المقاعد الأمامية فالهمهمة كانت تزداد ارتفاعاً ..
عندما خرج من الباب الزجاجي .. لمح الموظف الأنيق .. كانت نظرة عدم الفهم ما زالت معلقة على وجهه اللامع .
على الرصيف تنفس بعمق .. وشعور بالضيق الحزين يملأ صدره .. لمح الباص قادماً من المنعطف ، ومع أنه كان يشعر برغبة في المشي وتأمل اللافتات المضيئة .. أو الجلوس على أحد المقاعد الخشبية الطويلة التي تتمدد تحت الأشجار على الرصيف الهادئ .. الذي تضيئه مصابيح الأعمدة الصفراء . إلا أنه أشار بيده إلى الباص عندما اقترب منه ..
عندما توقف الباص صعد الدرجات القليلة .. كان الباص ممتلئاً بالركاب .. وعدد منهم يقفون ممسكين بالقطع الجلدية المدلاة من السقف . وقف معهم .. رفع يديه وأمسك بالقطع الجلدية .. نظر من زجاج الباص الخلفي إلى مجمع النقابات المهنية وهو يبتعد شيئاً فشيئاً بنوافذه الكبيرة المضاءة .. تذكر الفتاة ذات النظرة المتقززة .. نظر إلى وجوه من حوله .. كانت وجوهاً متعبة .. تنهد بحرارة وابتسم ..

الرسائل العتيقة .. وقصص أخرى





قصص قصيرة جداً : منذر ابو حلتم




غياب
قال لها :- هل ترين غروب الشمس ؟ ..هل ترين ذلك الأفق الاحمر البديع ؟ .. هناك تحلق روحي شوقاً اليك اذ تغيبين ..!!
وعندما نظر اليها .. لم يجدها .. تذكر انه يحلق الآن هناك .. وانها غائبة


الرسائل العتيقة
كان يشعر بالبرد .. وصوت الرعد الذي يتدحرج على سقف الكون بين فترة واخرى يضفي على مشاعره غربة .. ووحشة .. شعر بشوق اليها ..أخرج رزمة الرسائل العتيقة وأشعل شمعة ..فملأ الربيع غرفته الصغيرة وروداً وأعراساً ودفئاً وأغنيات بعد ساعتين .. اجفل حين سمع الرعد يعزف انشودة الوحشة من جديد

أم ووطن
قالت له وهي تودعه وتحضنه بقوة لدرجة الألم : ولدي .. حبيبي ..أخاف عليك ..ولدي .. ليس لي احد غيرك الآن .. ولدي .. حاول ان تعود حياً ..ولكن لا تستسلم


لقاء
من خلال سحابة الدخان والغازات السامة الكثيفة لمحه .. تذكر اسطورة الفينيق ..! .. وتذكر اخوه الذي استشهد قبل ايام تقدم ببطء حاملاً حجراً .. كان شوقه لأخيه يزداد .. ويزداد ..
غاب في سحابة الدخان .. لحظات ثم التقى بأخيه الشهيد هناك .. حيث لا الم بعدها


خوف
حين قالوا له : مبروك .. لقد اصبحت حراً بعد عشرين عاماً امضاها سجيناً ، شعر بالخوف .. بكى ، واسرع نحو الزوايا المعتمة

بعد السبات

قصة : منذر ابو حلتم

فتح عينيه بصعوبه .. صفير حاد يملأ اذنيه .. أغمض عينيه وفتحهما عدة مرات . ترى كم الساعة ؟ .. حاول رفع يده .. لكن يده ثقيلة .. ثقيلة جداً ، وألم حاد غريب يمزق عضلات يده .. ومفاصله جميعها ..
بعد جهد كبير نظر إلى ساعته .. كانت الساعة واقفة .. ومغطاة بالتراب .. ذهنه مشوش .. وأخيلة وصور غريبة وغير مترابطة ترتسم على جدران مخيلته .. وبين النوم واليقظه نظر إلى سقف الغرفة .. حاول التشبث بالواقع .. ولكن ، لماذا يشعر بكل هذا الألم والتعب والإرهاق ..؟ وكأنه تعرض لضرب قاس مبرح ..
هو لم يشرب شيئاً ليلة أمس .. بعد العشاء دخن سيجارتين وشرب فنجان قهوة .. وبعد أن قرأ الصحيفة استلقى على سريره ونام ..
انتبه للمرة الأولى إلى السقف .. يا إلهي ..كانت زوايا السقف مغطاة بنسيج العنكبوت ..وبكثافة غريبة .. من أين جاءت كل هذه العناكب .. ومتى استطاعت أن تبني كل هذه المستعمرات العنكبوتية .. ؟
حاول الجلوس في السرير .. شعر بالدوار .. الجدران تدور حوله بسرعة مخيفة .. أغمض عينيه و استجمع قواه.. وجلس في السرير ..
هل هو مريض إلى هذه الدرجة ؟! فتح عينيه .. الجدران تخفف من سرعة دورانها .. جال بعينيه في أنحاء الغرفة الصغيرة .. ماهذا ؟ .. الغبار يغطي كل شيء .. الطاولة .. المكتبة .. خزانة الملابس الصغيرة .. الأرض والجدران ..ومستعمرات النسيج العنكبوتية في كل مكان .. اللعنة ..! من أين جاء كل هذا الغبار ..؟ هل هي عاصفة رملية .. ؟ لكن النافذة مقفلة ..نظر إلى زوايا السرير الحديدية بدهشة .. كانت مغطاة بالصدأ .. لمح فجأة رأساً مخيفاً يطل عليه من المرآة المثبتة على باب الخزانة .. رأس مغطى بشعر أبيض أشعث وكثيف .. وعينان مذهولتان تطلان من وجه تغطيه لحية بيضاء تطاير شعرها الكثيف في كل الاتجاهات .. شعر بالرعب .. من هذا ؟..
استجمع كل قواه وحاول النهوض .. لكنه سقط على الأرض بجانب السرير .. زحف بصعوبة .. إلى أن وصل إلى الخزانة .. نظر إلى وجهه في المرآة .. وجه نحيف مخيف ينظر إليه بذهول من خلال الشعر الأبيض الكثيف .. انتبه إلى يديه المعروقتين .. وأظافره الطويلة المقوسة .. ماذا يجري ؟ .. تذكر قصة أهل الكهف .. ابتسم بذهول .. ثم صرخ بصوت متحشرج مبحوح :
- اللعنة .. ماذا يجري ؟ 
هل نام مثل أهل الكهف ؟.. نظر إلى صحيفة الأمس على الطاولة .. كانت بنية اللون .. متآكلة الأطراف ومغطاة بالتراب والعفن ..
زحف إلى جهاز الراديو المغطى بالتراب .. أدار مفتاحه ولكن لم يصدر عنه أي صوت ..زحف إلى النافذة .. فتحها بصعوبة .. لكنه لم يرَ شيئاً .. ضباب أبيض كثيف يغطي كل شيء .. وأصوات غريبة مبهمة تصل إليه مصحوبة بذلك الصفير الحاد ..
ماذا يجري .. وفي أي زمان أنا ؟ نظر إلى قميصه المهترئ وهو يتمزق مع كل حركة بسيطة يقوم بها .. نظر إلى باب الغرفة .. يجب أن يخرج من قبر الجنون هذا ..زحف إلى الباب ..جاهد طويلاً حتى تمكن من زحزحة الباب القديم المتهالك ..ثم زحف إلى الخارج ..
زحف على يديه وقدميه .. الضباب يحيط به من كل الجهات ..
صرخ :- ماذا يجري .؟ .. أين أنا ؟
اصطدم بشخص آخر يزحف مثله ويتساءل برعب :- ماذا يجري .. قل لي ماذا يجري ؟
شخص آخر .. وآخر .. وآخر .. الجميع يزحفون بصعوبة ويتساءلون :- ماذا يجري ..
زحف مع الزاحفين في الضباب .. وأصواتهم المبحوحة ترتفع من كل مكان :
- أين نحن ..؟ 
- ماذا حدث ..؟ 
- ماذا يجري ؟

أين ومتى ؟؟


قصة : منذر ابو حلتم

كان وحيداً .. مثل نخلة في الصحراء ، وحيداً تماماً .. فراغ بارد غريب يشعر به في أعماقه .. قال لنفسه :
اشعر وكأن الريح تصفر في داخلي -
سار دون هدف .. وجد نفسه قريباً من الجبل ..سار صعوداً ، ثم جلس على صخرة ناتئة وكأنها خنجر مغروس في خاصرة الجبل . كانت السهول تمتد أمامه على مد البصر .. سهول غبارية اللون . لم ينتبه لغياب المدينة .. تساءل فجأة :
- ما اليوم ؟ ما التاريخ ؟ .. أين الشمس ؟
انتبه برعب إلى عدم وجود الشمس في السماء .. مع أن الضوء الباهت يغمر كل شيء .. انتبه برعب أشد إلى عدم وجود ظلال للأشياء .. أين ظلي ؟ هل هو كسوف الشمس ؟ لكن الكسوف لا يستمر كل هذا الوقت ..! هل هو حلم سخيف ؟ كابوس ممل لا داعي له ؟ حاول أن يلتجئ إلى المنطق .. المنطق يرفض عدم وجود الشمس والظلال في النهار .. إذن فهذه مجرد تخيلات و أوهام لا وجود لها .. وهو يشعر بالعطش والأفق بوابة مشرعة للفراغ . لكنه صرخ فجأة : اللعنة ..ولكن أين الشمس ؟
شعر بالبرد .. فقرر أن يسير .. لا يهم الاتجاه .. المهم أن يسير .. مشى مسافة طويلة .. طويلة جداً .. ليجد نفسه مرة أخرى قرب الصخرة الناتئة .. ضحك وضرب كفاً بكف .. هل هذه هي الحلقة المفرغة ؟ أم نظرية الكون الأحدب ؟ كرر جملته الأخيرة بشيء من الاقتناع .. هي نظرية الكون الأحدب .. ولكن ألم يجد هذا الكون الأحمق شخصاً غيري يمارس عليه تحدبه وغباءه ؟!
شعر بالنعاس نعاس ثقيل يشبه الخدر .. والبرد يزداد ..شعر بأنه سيموت .. تمدد بجانب الصخرة الناتئة وتساءل .. ربما كنت ميتاً فعلاً ؟ نعم أنا ميت .. ميت بلا شك . أحس بشيء من الراحة .. وهمس باسترخاء
- أريد أن أنام . سواء كنت حياً أو ميتاً .. فيجب أن أنام 
الخدر يزداد وضباب كثيف يتجمع في رأسه المثقلة .. أغلق عينيه فلم ينتبه لقدميه وهما تتحولان إلى حجرين .. التحول يمتد إلى الأعلى .. لم ينتبه إلا عندما حاول أن يرفع يده الحجرية ليتحسس جبهته المتجمدة .. نظر إلى جسده الحجري .. حاول أن يبتسم .. لكن شفتيه تحولتا إلى حجرين .. ثم غاب كل شيء فجأة .. واختفى صوت الريح و أغلقت بوابة الأفق ..
انتبه من شروده .. كان يتكئ على تمثال حجري غريب الملامح .. يتمدد بجانب صخرة كأنها خنجر في خاصرة الجبل .. تساءل وهو يدقق في ملامح وجه التمثال الحجري
- أين ومتى رأيت هذا الوجه ..؟ .. أين ومتى ؟

وجهي .. والمدينة





قصة : منذر ابو حلتم

هناك شيء خطأ .. شيء غير طبيعي .. يشبه رائحة غريبة تتسرب في الهواء ، وتخترق الجدران .. ! صمت غريب يلف المدينة وشوارعها .. لا أعرف كم ساعة نمت .. لكنني استيقظ الآن وشعور بالغربة يجتاحني .. أنظر في ساعتي .. إنها متوقفة .. كم الساعة الآن ؟!..
انظر من النافذة نحو الجبل البعيد .. وراء المدينة ، حيث تعودت الشمس أن تغيب كل مساء ، لكن السماء بلونها الرمادي تضفي على مشاعري مزيداًمن الاغتراب .
أغسل وجهي .. ألمح على الطاولة صحيفة الأمس .. أمر على عناوينها بسرعة ، شعور بالغثيان يدفعني إلى إلقائها بعيداً . عطش شديد يرتفع في صدري كموجة حر صحراوية .. أبتسم و أتمتم :
صدري صحراء .. ! بداية تصلح لقصيدة مملة -
أذهب إلى المطبخ وأفتح الثلاجة .. ألمح على الثلاجة كتاباً مفتوحاً .. متى وضعته هنا ؟ .. أتصفح الكتاب .. الغثيان يعاودني ، فألقيه بعيداً ..
البيت ضيق يكاد يخنقني .. أتنفس بعمق ، ولكن تلك الرائحة الغريبة تنتشر في كل مكان .. يجب أن اخرج .. تنبثق صورتها في مخيلتي كوردة تشق صحراء الإسمنت التي تحاصرني ، وحدها هي القادرة على تمزيق هذا الركود الرطب الممل .. كانت تقول لي : - أنت دائماً متحمس ..
لكنها كانت تتابع ضاحكة : - ولهذا فأنا أحبك ..!
أخرج مسرعاً .. الشارع مقفر ، أسير ببطء مندهشاً .. ما هذا الهدوء الغريب الذي يلف الشارع ؟ .. اقترب من موقف الباصات ، إنه مقفر هو الآخر .. يبدو إنني نمت كثيراً .. ولكن كم الساعة الآن ؟ .. أنظر إلى السماء .. سقف رصاصي يمتد من الأفق إلى الأفق ..
انتظر قليلاً ثم أسير حتى الشارع الرئيس .. هناك خطأ ما ..! فحتى في أيام الشتاء الموحلة لا يكون الشارع مقفراً هكذا .. القلق بدأ يساورني .. أنظر حولي بخوف .. أشاهد شخصاً من بعيد ، يسير ببطء قاطعاً الشارع بخطوات آلية .. أناديه لكنه يمضي دون أن يلتفت ! .. شيء غريب يتنفس في شوارع المدينة ..
شخص آخر يمر قربي .. أناديه ، أمسك بكتفه وأديره نحوي بعنف .. أنظر إلى وجهه .. فأكاد اسقط ميتاً ..
كان رأسه بلا وجه .. مجرد مساحة فارغة بلا عينين أو فم أو أنف ..!! .. يفلت ذراعه من يدي ويمضي ..
شخص آخر .. وآخر .. الجميع يسيرون بحركات آلية وقد فقدوا وجوههم .. أفكر بالهرب ، ولكن إلى أين ؟! وكل شوارع المدينة مقفرة .. غريبة
أصرخ بكل قوتي .. يخرج صوتي غريباً متحشرجاً .. تردد صداه جدران المدينة الصامتة .. أي كابوس هذا ؟ أحاول أن أفكر ، أن أتذكر .. أن أفسر هذه الظاهرة .. لكن الضباب الرمادي يغلف كل شيء ..
تنبثق صورتها الجميلة في مخيلتي .. وردة تشق صحراء الإسمنت التي تحاصرني .. يشلني الرعب ، يجب أن أراها .. أن اطمئن عليها ..! اركض بجنون بين فاقدي الوجوه ، أقطع شارعاً أثر شارع .. هاهو منزلها ، أقف قرب الباب .. لا أستطيع أن أتصورها بلا وجه ..
أدق الباب بيد مرتجفة ، ثم أدفع الباب .. أكسره وأدخل .. أناديها بصوت بدا كالصراخ .. أسمع صوت خطواتها قادمة من الغرفة المجاورة .. التفت إليها بلهفة .. فيغوص قلبي في صدري كتلة من رصاص .. وأصرخ :
مستحيل .. !! .. حتى أنت ؟-
أمسك بيدها : - ماذا يحدث ؟ .. أكاد أجن .. هل تسمعينني ؟
لكنها تسحب يدها ببطء ، وتدير وجهها الفارغ .. أبتعد ببطء ، ثم أخرج راكضاً
أي وباء هذا ؟ أي جنون ؟ .. الجميع يفقدون وجوههم .. يفقدون عيونهم وأفواههم ..أقف فجأة .. ولكن أنا ..!
ماذا عني أنا؟ هل يمكن ؟ ولكن لا .. فها هي عيناي أرى بهما .. وها هو فمي .. ما زلت قادراً على الصراخ ..
أنظر إلى صورة وجهي في زجاج أحد المحلات .. ضباب خفيف بدأ يغطي ملامحي .. لكن وجهي ما زال فيه بقية من وضوح ..!
أصرخ بقوة : - لن أفقد وجهي .. هل تسمعون ؟ لن أسمح لكم بسرقة وجهي !!
لكن صدى صوتي تردده جدران المدينة ، ثم يخيم الصمت من جديد ..
أضع يدي على وجهي لأتأكد من وجوده .. انظر حولي باحثاً عن مخرج .. لا بد أن هناك مخرج ما .. أتذكر .. الجبل .. الشمس كانت تغيب دائماً وراء الجبل .. في الأمس .. وقبل شهر .. وقبل آلاف السنين ، دائماً كانت الشمس تغيب هناك لا أعرف لماذا ..لكنني أمسك وجهي بكلتا يدي .. وأسرع راكضاً نحو الجبل ..

الكلب والتماثيل


قصة : منذر ابو حلتم

المطر يتساقط بشدة .. وها أنا أسير في الشارع مبللاً كقط مشرد ، والماء قد دخل إلى حذائي .. فأصبحت عملية المشي أمراً مزعجاً وباعثاً على السخرية . لفحات متتالية من الهواء البارد الممزوج بالمطر تصفع وجهي فأندم على خروجي في مثل هذا الوقت ..
الليل يزحف ببطء وتثاقل على المدينة .. كثير من المحلات التجارية أغلقت أبوابها الزجاجية .. وجلس أصحابها باسترخاء حول المدافئ .. محلات الخضار أشعل أصحابها الخشب وجلسوا حول النار يشربون الشاي الساخن ويسعلون من الدخان الكثيف المتصاعد من النار ..
البرق يلمع فجأة .. تبعه صوت الرعد غاضباً مزلزلاً .. يجب أن أسرع .. اليست فكرة مجنونة هذه التي تدفعني للمجيء إلى المقهى في مثل هذا الطقس ؟! لكنني أحب الشتاء ، بل إنني أكاد أجزم أنه أحب الفصول إليّ ..!
أتأمل اللافتات المضيئة .. (صالون الكاوبوي الأسمر !) .. لكن كلمة (بوي) لا تضيء .. ابتسم وأسير محاولاً الاحتماء بالمظلات المتناثرة بين مسافة وأخرى ، ها هو الجسر الحديدي الممتد بين ( جناعه ) ومدخل ( سوق النصر ) ..كثيراً ما تساءلت عن معنى وجود هذا الجسر الممتد بكآبة في المطر والفراغ .. فهو بلا أدراج ويتمدد بحمق قاطعاً الشارع دون أن يتمكن أحد من استخدامه .. ! أهز رأسي كفيلسوف وأتمتم : - كم من أشياء لا داعي لوجودها ..لكنها موجودة .. بل وتصبح أشياء ثابتة بديهية يصعب تصور عدم وجودها ..! أحاول أن أتذكر أين ومتى قرأت هذه الكلمات .. دون جدوى ..
تلفح أنفي رائحة دافئة .. رائحة الفلافل المنبعثة من مطعم (أبو رجائي ).. الذي كان مزدحماً، وصوت القلي ورائحة الفلافل تجذب الناس فيدخلون ولا يخرجون ..
وأخيراً .. ها هو المقهى ( مقهى الروشه ) .. اسم فخم ، ولعل هذا الاسم هو الذي شجعني لأن أصبح زبوناً لهذا المقهى بالذات ! .. عند المدخل تجمع ماء المطر مشكلاً بركة صغيرة لا بد من اجتيازها عند الدخول والخروج .. لكنني مبلل ، ولمعة برق أخرى تقذفني قذفاً إلى الداخل .. أصعد الدرج مسرعاً ، فيستقبلني هواء ساخن مشبع برائحة القهوة والشاي والدخان ..
المقهى مزدحم .. والدفء يبعث على الارتياح . اشمل المقهى بنظرة واسعة .. هاهي طاولة فارغة بالقرب من الزاوية . النوافذ مغلقة .. وبضعة مصابيح كهربائية صفراء تصب ضوءها الباهت على الوجوه والكراسي الخشبية القديمة والطاولات .. صوت قطع الزهر وأوراق اللعب والاراجيل يضفي على المقهى جوه المعتاد .. وها هو عباس يروح ويجيء بالطلبات كعادته منذ قرون .. أبتسم وأكاد أقسم إنني شاهدته في أحد المسلسلات المصرية .. على الطاولة فنجان قهوة فارغ وأوراق لعب مبعثرة وجريده .. أتناول الجريدة بحركة آلية .. أنتبه لصوت عباس :
أهلاً أستاذ .. تشرب حاجة ؟
- شاي .. شاي ثقيل بالميرميه
أقرأ عناوين الصفحة الأولى فأشعر بالبرد .. وأقلب الصفحة ، يلمع البرق في الخارج فجأة .. أشعل سيجارة وأقرأ ..
(مطلوب عمال نظافة) .. (مطلوب عمال تحميل وتنزيل ) .. وأشعر بالغيظ .. لا لشيء .. سوى لأنني أضعت ستة أعوام في الجامعة ..! .. برج الثور : - رسالة تصلك من صديق قديم .. لا تبذر نقودك .. حسناً ، لن أدفع ثمن الشاي لعباس هذا اليوم ! .. ( كلب مفقود .. كلب نوع وولف .. بني اللون .. في رقبته طوق مذهب .. جائزة 500 دينار لمن يعثر عليه ) .
الشاي يا أستاذ .. تشرب أرجيله ؟
تبدو الفكرة جيدة ودافئة ، انظر إلى عباس .. أراقب ابتسامته الدائمة ونشاطه الآلي
- ألا تشعر بالحزن ابداً يا عباس ؟ .. يضحك ويقول :
اللهم أبعد الأحزان .. رضا والحمد لله ..
أهز رأسي قانعاً .. ويذهب عباس صائحاً : - أرجيله مضبوطة للأستاذ
مطلوب مهندس .. عظيم .. الشروط .. خبرة عشر سنوات .. الأولوية لخريجي الجامعات الأمريكية .. رائحة الميرمية تبدو منعشة ولذيذة ..!
انتبه لصوت المقعد بجانبي .. وصفعة خفيفة على رقبتي ..
- مساء الخير والدفء والشاي ..
أشعر بالارتياح .. يجلس .. انظر إلى شعره المجعد المبلول وعينيه الواسعتين وكأنه في حالة اندهاش دائم .. وفمه الذي يتحدث كثيراً ..لم يتغير ابداً منذ أن عرفته في أول أيام الدراسة الجامعية .. ينادي عباس طالباً شاياً وأرجيلة .. يفرك يديه بشدة ويحتضن كأس الشاي بكلتا يديه ..
كيف شغلك ؟
عظيم .. أنزلت اليوم لوحدي نصف شاحنة خضار -
اضحك فجأة وأقول : - لو عرضتك للبيع .. هل تساوي خمسمائة دينار ؟
يرد وهو يرتشف الشاي بصوت مسموع : - ومن الذي يشتري الهم من صدر صاحبه ..؟!
الوقت يمضي .. وها نحن نلعب الزهر للمرة الثالثة .. ننتبه على صوت صاحب المقهى وهو يصرخ :
- ألق بهذه الملعونة إلى الخارج
كانت طفلة متسولة في السابعة أو الثامنة من عمرها .. مبللة تماماً وترتدي حذاء كبيراً ممزقاً ..
يمسك عباس بالطفلة من كتفها ويخرج بها .. بعد لحظات ارتفع صوت سيارة وهي تتوقف بصورة مفاجئة .. كان صوت الكوابح عالياً لدرجة أن معظم الجالسين أسرعوا لإشباع فضولهم .. ومعرفة ماذا جرى
أتذكر الطفلة .. انظر إلى عيني صديقي ونقوم بسرعة .. كانت سيارة فخمة تقف بمحاذاة الرصيف وقد اصطدمت بسيارة أخرى ، وعلى الأرض كانت الطفلة ممددة بلا حراك .. وخيط رفيع من الدم يسيل من فمها ..
أحدهم يقول : - يا لها من شقيه .. كنت أعرف أن نهايتها ستكون هكذا .!
صوت آخر يقول : - ينجبون الأطفال ويلقونهم في الشوارع ليبتلي بهم الناس !
سائق السيارة الفخمة ينظر إلى ساعته منزعجاً .. يبدو أنه تأخر عن موعد هام .. بينما صاحب السيارة الأخرى يركض من بعيد ثائراً مهدداً .. أحاول أن أتقدم لحمل الطفلة .. أكثر من صوت يصرخ بي :
لا تلمس شيئاً .. حتى تأتي الشرطة -
يذهب صديقي لإحضار سيارة أجره لنقل الطفلة إلى المستشفى .. انظر إلى وجوههم .. مجرد تماثيل .. تماثيل فارغة متحجرة .. انظر إلى الطفلة .. كان خيط الدم يسيل ببطء ممتزجاً بماء المطر .. يسيل ويمتد .. ويتعرج مشكلاً صورة تبدو كلوحة رسمها طفل في السابعة أو الثامنة ..كان خيط الدم يرسم كلباً نوع وولف .. بني اللون .. في عنقه طوق مذهب

الشتاء دافئ هناك

قصة : منذر ابو حلتم

ثمل بشعورك بالملل ، تسير في الشارع المزدحم ووجهك تضيئه مصابيح السيارات المنطلقة بين لحظة وأخرى ..وهذا الجو الشتائي الكئيب يجبرك على السير بمحاذاة الأبواب الزجاجية المقفلة .. وجوه كثيرة تمر قربك .. يخيل إليك أنها حزينة ..‍‍
..الليلة ستنتهي .. نعم ، لا يمكن أن يطول الأمر أكثر من ذلك ..‍
تمر سيارة مسرعة ، ينطلق رذاذ الوحل والشتائم .. تضع يديك في جيبي سترتك الجلدية وتمضي..
أنا لا أحب الشتاء .. لكنني أحب المطر ..‍! كانت تقول لك
يفاجئك المقهى عند المنعطف ، تشعر برغبة كبيرة لشرب شيء دافئ .. أي شيء ..يغريك منظر الدفء الماثل في الداخل .. تجلس على طاولة فارغة ، كانت لا تفرط في الشرب ..
إذا شربت كثيراً فإنني سأبكي .. لا أحب أن تراني باكية أبداً ..! والمدفأة الحجرية القديمة كانت تصدر صوتاً خافتاً .. تقترب منك وفي عينيها بحر أزرق دافئ ..
-انا لا أحب الشتاء ..‍ !وعندما كنت تقول لها أن الشتاء في بلادها دافئ رغم الثلوج .. كانت تحتد وتقول : - الشتاء هو الشتاء في أي مكان ..
تلتفت حولك .. يفاجئك الضجيج اللزج ، تنظر في الساعة .. إنها العاشرة ، وصوت أغنية صاخبة لم تفهم منها شيئاً ينطلق من مذياع هرم ..
تجيل عينيك في المكان .. عيون ناعسة .. عيون عابسة .. ضاحكة .. نائمة .. أوراق اللعب تصفع الطاولات بعنف ، أه .. إنه الحصار يا صديقتي ..‍ تأتيك القهوة .
كانت تحدثك بحماسة .. وعندما كنت تضحك وتقول لها إنها تشبه طفلة فلسطينية صغيرة استشهدت قبل سنوات في المخيم .. كانت تبتسم وتقول : هل حقاً ستذكرني في روايتك الجديدة ؟
تشعل سيجارة وتنظر إلى سقف المقهى .. دخان لزج يتجمع في الزوايا .. تنادي الجرسون وتطلب فنجان قهوة آخر .. كانت تقول لك : أنت مفرط في شرب القهوة .. ثم تتابع بعد أن تصمت قليلاً
= لا أدري لماذا تذكرني ببوشكين .. لكنك مجنون مثله على أي حال-
تبتسم وأنت تتذكر لكنتها الأجنبية وهي تلفظ اسمك .. وكنتما تتعمدان أن لا تذكرا موضوع السفر ..
ماذا ستكتب عني ؟ ثم أنت شاعر ولست روائياً .. ستكون رواية مجنونة مثلك -‍
تمسح عينيها وتقول : - يبدو أنني شربت كثيراً .. ستبعث الرواية لي .. أليس كذلك ؟ تشرب الكأس ببطء ثم تتابع فجأة بصوت متهدج
ستغيب طويلاً ..؟ ولم تكن لديك القدرة على الحديث ..
-ألا يمكن تأجيل السفر ؟ .. أعني
تبتسم بأسى وتقول لها : - سأكتب لك كثيراً .. ثم من يدري .. فقد أتمكن من المجيء بعد فترة ..
تقترب منك .. تحيطها بذراعيك .. وصوت المطر يتساقط على النافذة ..
أضواء الشارع تقتحم المقهى بين لحظة وأخرى .. والشارع يقفر شيئاً فشيئاً .. إنه قاع المدينة يا صديقتي .. حيث يعيش القديسون والقتلة .. والشعراء الجائعون ..!
سأنهي الرواية هذه الليلة .. تقول وتنظر إلى الشارع وهو يغرق بماء المطر.
هل تسمع لتشايكوفسكي ..؟ فكرة جيدة أليس كذلك ؟
كانت مستلقية على الأريكة ، تحيط صدرها بذراعيها وتنظر إلى سقف الغرفة .. فتبدو رموشها طويلة .. والمدفأة الحجرية القديمة تصدر صوتها الدافئ ..
أتدري ؟ .. لقد بدأت أحب الشتاء .. هل ستكتب هذا في الرواية ؟
تقول لها بأنها ستكون محور الرواية كلها ..تقول لك بصوت مرتعش
ألا يمكن أن تسير الأمور في اتجاه آخر ؟
تشعل سيجارة وتقول لها بأن العودة الآن هي الخيار الوحيد .. تتجمع أمواج زرقاء في الغرفة الدافئة ، تشايكوفيسكي يحلق كنورس مهاجر .. تنهار فجأة ، تغطي وجهك بيديك
- متى سيتغير هذا العالم الأحمق ؟؟
أتبكي ؟ ألم أقل لك أنك مجنون ؟ .. وكانت تبكي هي الأخرى ..
تخرج من المقهى فتلفح وجهك ريح منتصف الليل .. تضع يديك في جيببي سترتك الجلدية ..
عندما تدخل إلى غرفتك الصغيرة..‍ يزداد شعورك بالحصار .. !
تلقي نظرة على أكوام الكتب المبعثرة .. على الكراسي المقلوبة .. والملابس الملقاة أرضاً .. تجلس على طرف السرير العاري وتشعل سيجارة .. لقد أخذوا أوراق الرواية..‍! تنظر إلى الأشرطة المبعثرة على الأرض .. كان تشايكوفيسكي ملقى بالقرب من رجل الطاولة‍ !..
باب الغرفة يفتح بعنف .. عدة أشخاص يقتحمون الغرفة وينتشرون فيها شاهرين أسلحتهم كجنود في ساحة المعركة .. تنظر إليهم .. تبتسم بأسى .. آه يا صديقتي .. لقد اكتملت الرواية الآن.. لكنني لن اتمكن من إرسالها إليك هناك .. حيث الشتاء الدافئ ..

للبحر وجه آخر



بقلم : منذر ابو حلتم

كان يجلس في مقعده في مقدمة الباص .. ينظر من النافذة متأملاً حركة الناس والسيارات في الشارع المزدحم .. الجو حار .. والشمس مسمرة في وسط السماء ، تصب لهيبها على الرؤوس ..
وضع العكازين المعدنيين بجانبه أسفل المقعد ، ونظر إلى ساعته .. انها الثانية والنصف .. بقي مقعدان فارغان فقط لكن الباص لن يتحرك قبل الساعة الثالثة . شعر بشيء من النشوة وهو يفكر بالبحر .. تنفس ملء رئتيه وأغمض عينيه كي يسمح للصور بان ترتسم على جدران مخيلته ..
البحر .. وأخيراً ..!! أخيراً سيجلس على شاطئ البحر ، على حافة المياه .. سيستمع إلى صوته ووشوشاته الحالمة للرمال .. إلى عبث الأمواج الخفيفة وهي تعابث الشاطئ كصبية مدللة .. تقترب قليلاً لتبتعد مرة أخرى ..
آه كم يشتاق للبحر ..! المرة الأخيرة التي رآه فيها كانت قبل أكثر من سبعة أعوام .. هناك في بيروت .
أخذت الصور والذكريات تتتابع كشريط سينمائي .. البحر هو مخرجه ومؤلفه .. وممثله الوحيد ..!! هناك كان يجلس ساعات طويلة على الشاطئ .. وحيداً ينظر إلى الأفق البعيد البعيد .. محاولاً اكتشاف نهاية البحر .. أو بدايته .. ثم يكتب قصائده وكانه يستخرجها من أعماق البحر .. من رائحته .. هدوئه وجنونه .. من صوت النوارس وهي تلهو هنا وهناك .. هل في العقبة نوارس ..؟!..
انتبه إلى صوت حركة بجانبه ، التفت .. كانت تهم بالجلوس .. أسرع وتناول أوراقه وكتبه وتمتم
- آسف .. تفضلي
قالت وهي تجلس : - شكراً . نظر إلى ساعته .. انها الثالثة ، والباص يتحرك ببطء .. أسند رأسه على مسند المقعد ونظر من النافذة .. هل ستتاح له الفرصة في العقبة ليجلس وحيداً على الشاطئ ..؟ هل سيتمكن من الجلوس مع البحر على انفراد ؟! هناك الكثير مما سيقوله للبحر .. والكثير مما سيسمعه منه ..وها هي الأوراق جاهزة لتسجيل أغنيات البحر ..
من مكبرات الصوت ينطلق صوت فيروز ..! أغمض عينيه وشعر بقلبه يبتسم .. كان يشعر وكانه في طريقه إلى موعد مع حبيبة طال اشتياقه إليها .. تناول كتاباً .. مجموعته الشعرية الأخيرة ( للبحر وجه آخر ) .. فتح صفحة وقرأ
يا بحر صمتك طال ..
فانطق ..
وابعث الأمواج تعلو ..
فوق أكوام الحجارة والزبد ..


قلب عدة صفحات وقرأ : تعالي نلون هذا المطر..
تعالي نلملم .. أحلامنا
معاً نرمم قوس قزح ..
هم بإغلاق الكتاب .. التفت نحوها ، كانت تقرأ معه .. همس كالمعتذر
- عفواً .. هل تودين القراءة ؟
ابتسمت بارتباك .. ثم مدت يدها وتناولت الكتاب .. نظر إليها وهي تقرأ كانت انفعالات القصيدة تنطبع على وجهها بوضوح ، كما تنعكس صورة صفصافة على سطح بحيرة هادئة .. شعر بالغبطة .. جميل ان يرى الشاعر عن قرب أثر قصائده على وجه جميل ..! بعد ان أغلقت الكتاب سألها :
- هل تحبين الشعر ؟
- جداً
شعر بشيء من الفرح .. تساءل : - وهل أعجبتك القصائد ؟
صمتت قليلاً ثم قالت : - لقد نقلتني إلى عالم آخر .. عالم لم يعد موجوداً ..!
شعر بما يشبه الخيبة ..
هل تقصدين انها غير واقعية ؟ -
-لا .. العالم هو الذي لم يعد واقعياً .. أما هذه القصائد فهي ما تبقى من انسانية ما زالت موجودة في أرواح كائنات أوشكت على الانقراض .. هم الشعراء ..
كان يتابع حديثها وهي تتحدث باندفاع وحرارة .. فوجئ بجرأتها وحماسها .. شعر بالفرح .. قال باسماً
انت شاعرة .. ! ابتسمت وقالت : - شكراً .. لكنني لا أكتب الشعر .. انا أعيشه فقط ! صمتت قليلاً ثم تابعت : - انت طبعاً تحب الشعر .. وإلا لما حملت هذا الديوان معك ..!
ابتسم وقال : - وانا أعيش الشعر أيضاً ..
ابتسما معاً ..شعر بانها قريبة .. هناك شيء مشترك بينهما ، شيء كبير .. هو الشعر ..
- هل تحبين البحر ؟ صمتت قليلاً ثم قالت : - أحبه وأخافه معاً ! .. البحر صورة عن الحياة .. الحلم والواقع .. الهدوء والجنون ..
شعر بانها فتاة استثنائية .. نظر إليها باهتمام كبير .. ابتسمت بخجل وقالت :
انا أتكلم كثيراً ؟! ثم تابعت فجأة : - هل تعمل في العقبة ؟
فوجئ بالسؤال ، لكنه أجاب : - لا .. انا ذاهب في إجازة .. وانت ؟
- انا أعيش هناك
هذا يفسر صوت البحر المنطلق مع صوتها .. وهذه الأمواج التي تتقافز في العينين الصافيتين ..
تساءل :- إذن انت عائدة من إجازة ؟
- انا طالبة في الجامعة .. وأعود إلى العقبة كل أسبوعين .. لا أطيق الابتعاد عن البحر أكثر من ذلك ..‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ! ‍
- وماذا تدرسين ؟
الأدب العربي والفلسفة .. وتابعت : وانت .. ماذا تعمل ؟ فكر قليلاً وأشار إلى الأوراق : - أكتب

- صحفي ؟
- أكتب في بعض الصحف والمجلات .. ونشرت بعض الكتب
- إذن لا بد ان يكون اسمك مشهوراً ..‍ عفواً من انت ؟
أخبرها باسمه .. فتحت عينيها بدهشة ، تناولت الديوان .. نظرت إلى الاسم على الغلاف .. قالت بذهول : - : هل انت ؟‍! .. يا الهي ..! فوجئ بكل هذه الدهشة .. ابتسم وقال -
- ماذا .. هل خيبت أملك ؟
- انا أقرأ كل أعمالك .. وأحتفظ بمعظم كتبك .. يا الهي .. اعتذر عن ثرثرتي السخيفة..! صمتت قليلاً ثم تابعت : - كنت أتصورك أكبر سناً..! إبتسم وقال : - شكراً .. هذا إطراء كبير ..
بدت منفعلة ومرتبكة ، ندم .. تمنى لو أخبرها أي اسم آخر ..
الغروب ينشر عباءته الحمراء على الأفق .. ومعظم الركاب نائمون أو يغمضون عيونهم .. صوت فيروز يعطر الجو بعطر أزرق حالم كلون البحر ..
- هل تحبين صوت فيروز ؟
لم تجب ، نظر إليها .. كانت تغمض عينيها وقد أسندت رأسها على الكرسي . ظن انها نائمة .. أغمض عينيه هو الآخر لكنه سمع صوتها : جداً .. وانت ؟
- هل تعرفين ؟ هناك أشياء كثيرة مشتركة بيننا
صمتا .. سمحا لصوت فيروز ان يتغلغل في أعماق الروح ..
البحر يقترب منه .. يقفز نحوه ، نوارس كثيرة تحيط به ، وهو يركض.. يركض ..! كما كان قبل سبع سنوات !
انتبه ، كان رأسها يستند على كتفه .. نظر إليها ، كانت نائمة مثل طفلة صغيرة .. اهتز الباص فجأة .. انتبهت فزعة ..همست : - آسفة ..
إبتسم ولم يقل شيئاً.. شعر بانها جميلة وقريبة ، قال : - سأكتب عنك قصيدة !
ابتسمت بفرح وقالت : - هل سأراك في العقبة ؟
- ارجو ذلك .. ستجدينني على الشاطئ
أتمنى ان أراك وانت تكتب ..ان أرى ميلاد قصيدة ! ابتسمت وتابعت : - وقد نركض معاً على الرمال ..
تحسس قدميه .. يبدو انها لم تلاحظ العكازين ، ابتسم ولم يجب ..
كان الباص على وشك الوصول .. قال لها : - كانت رحلة جميلة معك ..
كان يأمل بان تنتهي الرحلة بذكرى جميلة .. ان تنزل من الباص قبله ، لكن الباص وصل إلى المحطة الأخيرة وهي ما زالت جالسة بجانبه .. الركاب بدأوا يستعدون للنزول .. وقفت ، نظرت إليه ..
- الن تنزل هنا ؟ 
- بلى .. سانزل الان . مد يده وتناول العكازين .. نظرت إليه بدهشة .. بذهول .. عادت وجلست ..
- آسفة .. لم الاحظ

- أبداً .. انا أيضاً أتمنى ان اركض معك على الرمال
وقفت .. مدت يدها إليه ، ساعدته على الوقوف ، حملت أوراقه .. ونزلا معاً من الحافلة .. نظر إليها .. كانت حزينة .. شعر بالرصاص يثقل صدره ..
- سأحضر لك سيارة .. أين تقيم ؟
- لا تتعبي نفسك .. سأتدبر أمري -
أوقفت سيارة وجلست بجانبه .. عند باب الفندق ودعته وذهبت .. وفي غرفته جلس على السرير .. تذكر الرحلة بتفاصيلها .. ابتسم بمرارة وتمتم : - هو الحزن .. صديقي الوفي ..!
في اليوم التالي كان البحر جميلاً وهادئاً .. وكان يجلس على شاطئه بسكون مغمضاً عينيه .. يستمع إلى تراتيله الغامضة ..
عندما فتح عينيه وجدها أمامه .. تتأمله بصمت ، قالت وملامحها جادة تماماً :
- لم انم هذه الليلة ..! وتابعت : أحب ان أعرفك أكثر . وصمتت .. نظر إليها .. قالت فجأة : - : منذ متى ؟ نظر إلى قدميه .. ثم إلى عينيها ..
- منذ سبع سنوات
- حادث ؟
- تقريباً ..كنت في بيروت .. وكان الحصار والرصاص
صمت ونظر إلى الأفق .. سمع صوتها بعد قليل
- كنت مقاتلاً ؟
- كنت أدافع عن حلمي .. وعن قصائدي
عندما نظر إليها بعد فترة .. كانت دمعتان تسيلان على خديها .. ابتسمت فجأة وقالت :
- قلت لي انك ستكتب عني قصيدة ..
مد يده نحوها .. أمسك بيدها .. كان البحر جميلاً كما لم يكن من قبل .. ونوارس كثيرة .. وأشرعة ملونة كانت تسافر قادمة من كل الاتجاهات .. همس :
- هل تسمعين صوت البحر ؟ .. انه يغني الان .. لقد بدأ ينشد القصيدة !

سقف المغارة



 قصة : منذر ابو حلتم
كانوا يحيطون بك .. ينظرون إليك بحب وألم ، وأنت ممدد على أارض المغارة . يتحركون جيئة وذهابا" .. تحاول أن تبدو طبيعيا" .. لكن الألم شديد .. شديد جدا" ، وعرق بارد غزير يغطي جسدك المرتعش .
تمد يدك ببطء .. تتحسس ساقك ، خدر عميق يتسلل إلى كل جسدك .. وهذه الرعدة اللعينة .. إنك ترتعش ، تحاول أن تتمالك نفسك .. أن تكبت هذا الارتعاش .. ولكن ..

يضع أحدهم قطعة قماش مبللة بالماء على رأسك ، ضوء السراج الشاحب ينعكس على وجهك القلق ، تسمعه يهمس :

- إنه يشتعل .. الحمى تكاد تقتله
 تشعر بالدوار .. وعلى سقف المغارة تدور الصور في دوامة غريبة .. الشارع يمتد طويلا" .. بلا نهاية .. شبان كثيرون تعرفهم جميعا" حتى وإن كانوا ملثمين ، دخان الإطارات المشتعلة يشكل سحباً سوداء تحجب سماء الخليل الصافية .. طائرة مروحية تقترب .. تحوم فوق الشبان كدبور أسود كبير .. جنود كثيرون .. يقتربون ، يتمركزون على مداخل الشوارع والأزقة ..

- اضرب ..! صاح صوت تعرفه جيدا
 - اضرب ..! تصرخ أنت أيضاً .. حجارة .. حجارة كثيرة تطير بقوة نحو الجنود .. الطائرة تمطر سحاباً أبيض كثيفاً ..
 - تجمعوا عند الزاوية .. لا تدعوهم يدخلون
 سيارة ( جيب ) عسكرية تزمجر قادمة بسرعة .. تطارد شابين ، وعند نقطة معينة يتوقف الشابان ثم يتفرقان .. السيارة تنحرف بجنون .. صوت فرامل .. ثم تهوي في الوادي القريب ..
- ضع الزيت على المنعطف الآخر !
 سقف المغارة يقترب .. يقترب .. يكاد يسحقك .. وهذه الدوامة اللعينة ..
 يتناهى إليك صوت أحدهم : - تأخر خالد .. يجب إخراج الرصاصة فورا" ..
 دوامة الصور تدور على سقف المغارة ، رصاص .. رصاص كثيف.. تتلفت حولك
- استشهد وليد !
 رصاص وسحب بيضاء خانقة .. تشعر بالغثيان والاختناق .. تزيل اللثام عن وجهك وتركض ، سيارة عسكرية تصعد الشارع .. إطار يشتعل قربك ، تتناول الإطار بقضيب حديدي وتدحرجه نحو السيارة .. السيارة تنحرف وتصطدم بعمود الكهرباء .. ثم .. آخ ..!! كتلة من اللهب تخترق قدمك .. عند الركبة .. ترتفع الأرض إليك ..ترتطم بك بقوة ، يجب أن تنهض .. لن تسمح لهم بالقبض عليك .. تقف .. تقفز على قدم واحدة .. الدم يسيل بغزارة .. الجنود يطاردونك .. حجارة .. حجارة كثيرة تحاصرهم من كل الجهات .. يتراجعون .. أيادٍ كثيرة تمتد إليك .. تحملك ، تنظر إلى عيونهم .. إلى وجوههم الملثمة .. تبتسم .. ثم تغيب عن الوعي ..!

- اشرب .. ستنفعك الميرمية !

تحاول أن توقف دوامة الصور .. تتشبث بالواقع ، تجيل عينيك الملتهبتين في أرجاء المغارة .. ضوء السراج الشاحب يجعل التخلص من الدوامة أمرا" صعبا" .. تقول بصوت هامس مبحوح :

- أعطوني سكيناً .. سأخرج الرصاصة بنفسي !
 يخيم الوجوم عليهم .. يدخل أحدهم فجأة

- جاء خالد !
 تنظر إليه فيتابع : - طالب في كلية الطب .. شيء خير من لاشيء
 يدخل خالد ، يحيطون به .. يسأله أحدهم
 - ألم يتبعك أحد ؟؟
  - اطمئنوا .. جئت عبر الأحراش .. أحضرت معي المشرط وبعض الكحول .. أشعلوا النار .
  ينظر إليك ..  - ليس معي مخدر .. لكنك ستتحمل أليس كذلك ؟
 تنظر إلى السقف بتحد عنيف .. صورة واحدة يجب أن تسيطر على عقلك المشتعل .. أختك هدى ..! المشرط الملتهب يقترب من مكان الرصاصة .. يخيم الصمت .. أختك هدى .. لقد قتلوها .. لقد تألمت اكثر منك .. يرتفع صوت الحديد المحمى وهو ينطفئ في اللحم .. آخ ..!
 - أخرجتها ...
 يصفق الشبان .. أحدهم يقول : - سنشرب شاياً بهذه المناسبة ..! ويسرع لصنع الشاي ..
 يقترب خالد .. يضع يده على جبينك ويقول :
 - لم تصرخ .. أنت رجل حقيقي ..! يبتسم .. يشد على يدك ويهمس :
 لا وقت للألم يا صديقي .. لا وقت !
تنظر إليهم .. إلى عيونهم ، يناولك أحدهم كأس الشاي .. تنتشر في المغارة رائحة الميرمية .. أيها الأصدقاء الطيبون .. من منكم سيستشهد غداً .. ومن سيبقى ؟! .. تنظر إليهم وتشعر أنك قوي .. قوي جداً .. وتبتسم ..

ذات سفر




بقلم : منذر ابو حلتم

صوت القطار يتوالى بانتظام رتيب يبعث على النعاس .. ومن النافذة المغلقة تبدو سهول بيضاء
لا نهائية تمتد في كل الاتجاهات ..سهول شاسعة مغطاة بالثلوج .. والسماء ملبدة بغيوم كثيفة رمادية اللون ..!

منظر الغيوم والثلج يشعرني بالبرد .. فأحكم اغلاق المعطف حول جسدي .. واكور يدي امام فمي .. وانفخ ببطء بحثاً عن شيء من الدفء ..

انظر الى ساعتي .. ما زال امامي ساعات طويلة قبل الوصول ..

أخرج مجلة من حقيبتي .. اتكئ بظهري على مسند المقعد الخشبي المغلف بطبقة رقيقة من الجلد ..اتصفح المجلة لكنني اشعر بالملل .. اخرج دفتراً صغيراً .. وقلماً .. اكتب كلمتين ( سهول الثلج ..وفي الروح جمر ) ..لكن فراشات الشعر تغادرني ، فأغلق الدفتر ..

ليتني انام قليلاً ..فكرة النوم تبدو معقولة ، بل وملحة ..انظر من النافذة .. ذيل القطار يبدو وهو يتلوى عبر السهول الثلجية المتراميه ..

أغمض عينيّ ..واستمع الى صوت القطار ..وشيئاً فشيئاً تغيب السهول البيضاء .. ويغيب صوت القطار
الشمس مشرقة هذا الصباح .. وها انا اسير في الجامعة ببطء بين مجموعات الطلبة .. الاشجار تبدو لامعة ونضرة ..اجلس على مقعد خشبي طويل .. دقائق .. ثم ها هي تجيء مسرعة تنظر هنا وهناك بعينيها الجميلتين ..!!

اتعمد البقاء جالساً .. اتابعها وهي تتلفت يميناً ويساراً .. الى ان تلمحني فتجيء راكضة ..تقول :
-آسفه .. تأخرت عليك ..!
كانت ترتدي طاقية صوفية زهرية اللون شبيهة بقبعات الاطفال .. ومعطفاُ جلدياً اسوداً ..
ابتسم وامد يدي مصافحاً واقول :- خفت عليكِ ..!
-لا تخف .. انا مثل القطط بسبعة ارواح ..!
اضحك واقول :- بل سته ..لا تنسي انك نجوت من الموت بأعجوبة قبل اسبوع ..
نجلس معاً على المقعد الخشبي ..
-  هل تشعرين بالبرد ؟؟
- نعم .. الجو بارد مع ان الشمس مشرقة ..! ثم تابعت :- لكنني احب هذا الطقس .. كل شيء نظيف ومغسول بالمطر ..
الطلبة يروحون ويجيئون .. مجموعات صغيرة .. و جامعة ( بير زيت ) تبدو اليوم مشرقة وجميلة ..
نقوم .. نسير معاً نحو كشك القهوة .. اطلب كأسين من القهوة بالحليب ..
- ها .. ماذا تخبرني ؟
انظر الى عينيها واقول :_ انتخابات مجلس الطلبة ستجري في موعدها .. وانت ستكونين ضمن قائمتنا ..!
- انا ؟!
- نعم انتِ .. فأنتِ لا ينقصك النشاط والخبرة .. ثم انك محبوبة من الجميع .. ستحصلين على اعلى الاصوات ..
تبتسم بخبث وتقول :- من الجميع ؟!
انظر اليها نظرة جادة واقول :- لكن الامر لن يكون سهلاً .. الانتخابات ستكون شرسة .. واذا فزنا .. ستكونين في بؤرة الاحداث ..فهل انت مستعدة ؟
انتبه فجأة على صافرة القطار ..افتح عيني .. كان القطار يتباطأ في سيره ، ومن النافذة الزجاجية المغلقة بدت محطة قديمة وقف على رصيفها بعض المسافرين ..
اغمض عيني مجدداً ..وصوت القطار يغيب شيئاً فشيئاً ..
ساحة الجامعة تغص بالطلبة .. وعلى البنايات اعلام كثيرة ولافتات عديدة مكتوبة بخط واضح كبير
( يوم الارض يوم خالد في تاريخنا )
( لن يذهب دم الشهداء هدراً )
( حملت رشاشي لتحمل بعدنا الاجيال منجلا )
هتافات تنطلق من كل الجهات .. ومن خلف اسوار الجامعة تبدو الدبابات الاسرائيليه وهي تحاصر مداخل الجامعة
اقف على منصة مرتفعة .. امسك في يدي مكبر الصوت .. كانت هي تقف الى جانبي تهتف بحماسة شديدة .. وحول عنقها تلتف كوفية سوداء وبيضاء ..
باب مقصورة القطار يُفتح مصدراً صوتاً مرتفعاً .. انتبه وافتح عينيّ .. رجل ينظر اليً ويقول معتذراً بلغة البلاد :- آسف .. ابحث عن صديقي ..! ..ثم اغلق الباب ومضى
.. من النافذة كان المساء يقترب .. والسهول الثلجية تكتسي لوناً رمادياً شبيهاً بلون الغيوم .. والقطار يواصل عزف انشودة السفر ..
غرفة التحقيق معتمة .. وخدر مؤلم عميق يتغلغل كالسكين في كتفيّ .. وانا معلق من يديّ في سقف الغرفة تكاد رجلاي تلمسان الارض ..!
اصوات المحققين تصل اليّ غريبة متداخلة .. وكأنها تأتي من بئر عميقة .. لكنني كنت انشد بصوت منخفض كالهذيان :
- انني عدت من الموت لأحيا .. واغني ..انني ..مندوب جرح … جرح .. جرح …
وكنت احاول جاهداً ان اتذكر باقي القصيدة .. لكن ذهني مشوش تماماً ..ققد منعوني من النوم منذ عشرة ايام ..!
استيقظ فجأة وانا ارتجف من البرد .. النافذة مفتوحة قليلاً .. والثلج يدخل من النافذة .. والليل يمد عباءته على كل شيء ..والسهول الثلجية تبدو رمادية كلوحة نسي الرسام ان يلونها ..
أغلق النافذة واجلس على المقعد .. اضيء المصباح الاصفر المعلق في سقف المقصورة ..ابحث عن علبة السجائر .. اشعل سيجارة وانظر من النافذة ..
الحلم المتقطع اعاد وجهها الى ذاكرتي بقوة .. شوق جارف يجتاحني .. اتذكر كيف عانقتني بقوة وامام الجميع .. بالقرب من الحدود وهي تودعني ..
دموعها كانت تنساب على وجهها دون ان تفكر بمسحها ..اتذكر كيف ارتجفت شفتها السفلى وهي تقول بصوت مرتفع وتلوح بيدها :
- انت اقوى من المنفى ..
الجنود يقتادونني بعيدا .. انظر خلفي .. احاول احتضان وطني بعيني .. يجيئني صوتها :
- نحن اقوى من الموت ..!
اسند رأسي على جدار المقصورة الخشبي … يا الهي .. لقد مرت خمس سنوات ..! .. خمس سنوات من السفر والرحيل المستمر ..بين موانئ ومطارات الاغتراب ..
استغرب هذا الحنين الدافق لكل شيء .. لوجوه اصدقاء احبهم وافتقدهم .. لأماكن وأحداث تتجسد الآن في مخيلتي بحضور طاغٍ غريب ..
وجهها الطفولي يطل مبتسماً حيناً .. وحزيناً احياناً ..رنة صوتها تنبض في داخلي
- انت اقوى من المنفى ..
اقف قرب النافذة .. الافق بدأ يصطبغ بلون الشروق الاحمر ..والثلج يغطي الارض والاشجار ..
كان الفجر جميلاً .. وهو ينشر ضوءه على التلال البعيدة ..
انظر الى ساعتي .. القطار سيصل الى المحطة الاخيرة بعد ساعة ..امسح عيني .. اتفقد حقيبتي واوراقي جيداً .. انظر الى الشمس وهي تبرز من وراء الافق .. اتنهد بعمق واهمس ..: - نعم يا حبيبتي .. يجب ان نكون اقوى من المنفى .. واقوى من الموت ..!!